استردت نساء من مدينة طوباس شهدن النكسة، وعشن لحظاتها العصيبة، التفاصيل القاسية للمأساة والنزوح. وقدّمن روايتهن خلال اللقاء الخاص الذي نظمته وزارة الإعلام وجمعية طوباس الخيرية، لمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة.
واستذكرت الثمانينية غصيبة عطية أبو إسعيد، مشاهد حافلة  الجرار الزراعي التي أحضرها شقيها ناجي، ونقلها فيها نحو 60 من أفراد عائلته الممتدة. تقول:  نزحنا من البلد، ووصلنا بيارات أبو هاشم على الشريعة( نهر الأردن)، ونمنا فيها ليلة، وكل واحد لبس شجرة(اختفى وراء جذعها)، وكنا نضع الأطفال في أحضاننا، حين نسمع أصوات الطائرات والقنابل. وشاهدنا شيخة صوافطة(أم زيدان) وهي ميتة في حلة(كومة) قش، خوفاً من الطائرات التي قصفتها.
ووفق الراوية، فقد حملت العائلة النازحة معها الطحين، وبعض الأغطية والملابس، وسارعت في الوصول إلى الضفة الشرقية للنهر، خوفاً من اليهود، وأقامت أربع ليال في الغور الأردني، وتابعت مسيرها إلى جبل الجوفة، للإقامة عند قريبها. ولا تنسى مشاهد الدبابات الأردنية المعطوبة، والجثث المنتشرة على جانبي الطريق.
قطعت أبو إسعيد، الشريعة، عبر قوارب من الصفيح صنعها الرجال، وسحبوا النساء والأطفال، خشية الغرق في نهر الأردن، في مشهد تكرر مع العشرات.
واستعادت شفاء سلامة اسياجات، التي كانت في عامها التاسع، تفاصيل الرعب والخوف، حين انتشرت  أخبار وصول الجيش الإسرائيلي لمحيط طوباس. وأفادت: بتنا تحت الأشجار والكهوف في منطقة الثُغرة، وسمعنا أصوات الطائرات وقنابلها، وشاهدت أبي يعطي الملابس للجنود المحاربين، ليساعدهم في الاختفاء. وسمعت خالتي عزيزة، وهي تقول أنها نسيت ابنتها الرضيعة فايزة من شدة الهلع( تغير اسمها لاحقا لهاجر)، ووضعتها في مغارة، لتعود شقيقتها لإرجاعها.
تزيد اسياجات: وصلنا عمان بعد خمسة أيام من الخوف، وكانت معظم الناس حافية، وأمضينا شهراً في مخيم(زيزيا)، وقبلها في مدرسة الحسين، وعدنا بعد شهر، عن طريق الصليب الأحمر. وكنا نسمع الأخبار من الرجال الذين يتنقلون بالتهريب بين ضفتي النهر. وأقسى ما سمعته من قصص، أن سيدة ماتت من العطش وهي تفر في الأغوار؛ لشدة حرّه.
وتروي مي مبسلط حكاية العلقم، فقد أنهت صفها الأول الابتدائي، لتفر وقت الظهيرة مع العائلة في حافلة كبيرة، حتى وصلت إلى عمان، وتشاهد في الطريق بعض الجثث، والحرائق، والحافلات، والجرارات الزراعية، وكادت حافلتهم تنقلب وهي في الطريق. وشاهدت الناس تجتمع في الساحات العامة، ومعظمهم حافيين( دون أحذية)، والأطفال يبكون.
وتنقلت المربية والناشطة النسوية ليلي سعيد(11 عاما وقت النكسة) بين فصول الربع والهلع وإصرار عائلتها على البقاء، وعدم تكرار تجربة النكبة القاسية. وتقول: بحكم انخراط أخي عبد الرؤوف في صفوف حركة فتح(استشهد عام 1968) ووجود  أبناء خالتي في الجيش الأردني، وكوننا عائلة لاجئة، كنا نتابع الأخبار، ونجلس في ساحة المنزل، ونستمع عبر المذياع إلى خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
تزيد: مما لا أنساه من تعليقات أن الجنود المصريين كانوا في حفل للمطربة أم كلثوم، في الليلة التي سبقت الهزيمة، وبعدها  انتقلنا من منزلنا في المخيم إلى سهول قريبة، واحتمينا بأشجار البرتقال والكهوف المنتشرة، وأقمنا ثلاث ليال، وكنا نسمع أصوات الطائرات والتفجيرات، ونقطف ثمار الفقوس من المزارع المجاورة، وفي الليلة الرابعة جاء أخي وأبناء خالتي، واخبرونا بأن البلاد سقطت، وتخلوا عن لباسهم العسكري، بطلب من أبي؛ حتى لا يُفتضح أمرهم.
وتناولت دلال علي دراغمة( 20 سنة وقت النكسة) حكاية رحيل عائلتها، حين أحضر عمها سيارة شحن كبيرة. تسترد: هربنا إلى الأردن، دون أن نأخذ إلا القليل من الملابس والطعام، ولدرجة أن زوجة أخي نسيت طفلتها إخلاص في الشارع، قبل أن تعود لإحضارها. أما أبي فرفض الخروج، وقال: سأموت في أرضي.
تتابع: تنقلنا بالحافلة، ورأيت دبابات محترقة، وجثثا، وأناسا يفرون، وخاصة في منطقة( ميجان السمن) في الأغوار،  ومما لا أنساه، كيف خيّر سائق السيارة الذي نقلنا إلى عمان سيدة كانت تحمل طفلها، أن تصعد هي أو رضيعها فقط؛ حتى تتسع المركبة، فرفضت، وقالت: إما أن نعيش معًا، أو نموت معًا.
وذكر منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إن اللقاء يأتي كاستطالة لبرنامج"ذاكرة لا تصدأ" الذي تنظمه الوزارة واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة، ويهدف إلى إحياء التاريخ الشفوي، وتوثيق قصص العلقم التي عانها شعبنا بفعل الاحتلال، وما عاشه شهود النكبة والنكسة من فظائع.
بدورها قالت رئيسة جمعية طوباس الخيرية، مها دراغمة، إن أحياء النكسة يكتسي أهمية خاصة لتمثيله بالذاكرة النسوية، ولكون فصول العدوان لا زالت تتكرر يومياً، بفعل الاحتلال وإرهاب المستوطنين.

A || + .Copyright © 2013. All Rights Reserved || Developed By AMRA-IT